نمت القرى في بلادنا كمجتمعات قبلية امتهنت الزراعة لتدعم القرية بمنتوجات محاصيل الأرض.
في سياق الوقت الحاضر، قد يكون تعريف القرى قريب من وصف المدن أو المناطق الحضرية مع الامتداد العمراني، إلا أنه مازالت الصورة التي تتبادر إلى الأذهان بأنها مجموعة صغيرة من البيوت المتلاصقة بجانب بعضها البعض. ومن وجهة نظر اجتماعية وتخطيطية، فالوحدة المجتمعية قديمًا تعد أمان القرية؛ لذلك اعتمد التخطيط السكني على تلاحم البيوت، وهذا التلاحم هو ما شكل البيئة المجتمعية الودودة المترابطة فيما بينها، وجعل سكان القرية يتشاركون أفراحهم وأتراحهم معا على اختلاف المناسبات والظروف.
تتواجد خارج القرية قديمًا ساحة لتبادل المحاصيل والمنافع، فيأتي الزوار من المدن والقرى المجاورة للتبادل التجاري.
أما في المدن، فيتغير التخطيط ونمط الحياة.
تتكون المدينة من مجمعات سكنية مرتبطة بنقاط التقاء مجتمعية متعددة، يلتقي فيها السكان والزوار من داخل المدينة وخارجها، حتى أصبحت المساجد والساحات والحدائق هي أماكن تجمع العامة.
يطلق اسم ” المدينة ” تقليديًا على المناطق التي يقع في وسطها مركز للسوق، فتكون نقطة التقاء السكان والزوار معاً، وذلك ما جعل المدن مركزاً لتبادل الثقافات والصناعات، بعكس القرى التي لا تحتضن الثقافات الأخرى، بل تتمسك بهويتها.
إن النشاط التجاري المتعدد في المدن أدى إلى أهمية وجود المرافق والخدمات التي تدعم السوق، مما ساعد في توسع الأنشطة التي تزيد من النمو الاقتصادي للمدينة، فأضيفت نزل الضيافة، ومطاعم الوجبات، ومحطات البنزين إلى المساحات العمرانية؛ لتصبح جزءاً من الخدمات التجارية، مما أدى لتنوع الأنشطة الاقتصادية محليًا.
إن تطوير فكر النشاط التجاري من ساحات مفتوحة إلى مباني قد ساهم في نمو التطور العمراني، ولكن مع مرور الزمن دون إدراك في التخطيط، فتحولت نقاط الالتقاء العمرانية وساحات التجمع السكنية إلى أنشطة تجارية، فاحتوت المباني السكنية محلات تجارية، وتوسعت الأسواق التجارية المركزية، وارتبطت الشوارع بتصميم النشاط التجاري كذلك، حتى أصبحت التجارة هي رمز المدن، وشيئًا فشيئًا فقدت المدينة معناها من مجمعات سكنية ونقاط التقاء مجتمعية إلى أنشطة تجارية.
في الوقت الحاضر تتشابه الاحتياجات في القرى والمدن إلى حد كبير، فلم يعد التصنيف ممكنًا مع كل التقدم في التقنيات والتكنولوجيا الحديثة التي تصل لكل المواقع حتى تلك الغير مخططة. بالرغم من ذلك، فإن الهيكل العمراني للقرية لابد أن يساير كيانها الثقافي والاجتماعي المرتبط ارتباطًًا قويا بحفظ هويتها الريفية.في القرية، تبدو سنة التطور مغايرة لمبدأ الطفرات المعمارية الدخيلة على الثقافات المحلية، و يتسبب الاندفاع السريع وراء التصنيع الشامل للقرى الريفية إلى فقدها لكيانها الريفي والعمراني والثقافي والاجتماعي، فتصبح قرية مشوهة مدنيًا.
توفر القرى في مناطق العالم الهدوء والسكينة في الموقع الريفي، وتعد العمارة البيئية سببًا رئيسًا بحد ذاته للزيارة، مع المزايا الإضافية التي تتمثل في المتاجر والمقاهي والأسواق ومواقع الجذب المحلية، ولو نظرنا في هذا الجانب، سنجد في دولة كبريطانيا أن القرى تركز على مواد الطبيعة، فيستخدم الطوب الدافئ لغرف الشاي الشهيرة، وفي أسبانيا تصمم الحمامات الأندلسية التي يعتمد مواقعها على الينابيع الطبيعية من الطوب، وتأثث من الرخام.
أما التنوع الزراعي بألوان الطبيعة الزاهية فيعد من مزايا القرى الريفية ومداخيلها الاقتصادية، كل ذلك يجعلها أماكن جذب للحواس للاستمتاع بها، وسببًا كافيًا لزيارتها.
ثم يأتي قرارك بعد ذلك،
أترغب في البقاء أم الزيارة؟
هنا يأتي الفرق بين المدينة والقرية
غالبًا ما تكون الآراء متباينة عندما تكون القرى على وشك أن تصبح مدنًا. فبالرغم من الجوانب الاقتصادية التي قد تنشأ مرتبطة بالمدن، إلا أنه في الواقع قد يحتشد الكثير ضد التحول إلى مدينة، مستشهدين بالخوف من النمو السكاني الكبير الذي يعيق توفر الخدمات المصاحبة للازدحام السكاني.
أيًا كانت الزاوية التي تدعمها، فإن التخطيط العمراني للمدن والقرى والبلدات يعتمد على الكيان الاجتماعي والثقافي، الذي يعتمد على عدد أفراد الأسرة واحتياجاتهم، وأعمالهم التي تشكل التخطيط والتصميم للمحيط السكني معًا، فقرى العالم ومدنها لا تستنسخ من محيط مختلف بل من الاحتياجات والبيئات المحلية.
لكل قرية ومدينة ومنطقة صبغة ونكهة وكينونة تناسبها تجعل منها هوية أصيلة غير مركبة، بعيدة عن التصنيع الشامل ومناسبة لنمط الحياة الاجتماعي الملائم عمرانيًا واقتصاديًا وثقافيًا. من هنا تأتي أهمية التمعن في البعد الاجتماعي عند التخطيط، لا سيما العلاقة التكافلية بين السكن والاقتصاد ليدعم كل منهما الآخر لطبيعة الحياة المناسبة للتكوين الحضري المرغوب بتطويره: القرية أو المدينة.