لطالما تسائلت عن الآلية التي يستخدمها أصحاب المساكن في طريقة تنسيق بيوتهم داخليًا، وكثيراً ما يزداد فضولي لمعرفة الدوافع والأسباب التي تجعلهم، في فترة زمنية محددة، يتخذون قرارات وتنسيقات متقاربة إن لم تكن متطابقة. وكون أبي مقاول بناء، شهدت الكثير من لمساته وإضافاته في المنازل التي يتعهد بتنفيذها، فيجعلها تتسم بشيء من الذوق الشخصي الذي يمارسه وينصح به أصحاب هذه البيوت. ومما زاد فضولي في توليف الطابع الشخصي للبيت البحريني، زياراتي للكثير من هذه البيوت بحكم تخصصي في العمارة وممارستي للتصميم الداخلي من خلال شركة إم سكوير التي أديرها مع زوجي المعماري محمد هلال، مما أكد لي وجود عناصر متكررة ولربما تكون موحدة في البيوت البحرينية، و سنتناول في هذا المقال فترة التسعينيات إلى بداية الألفية بالتحديد.
هذه التوليفة لطالما أثارت الكثير من النقاشات و الحوارات مع زملائي المعماريين والمصممين، في أحد هذه النقاشات توصلنا إلى تسميتها كما يصطلح عليها في التصميم الداخلي الأسلوب الإنتقائي Eclectic Style والذي يعني الجمع بين أنماط تصميم مختلفة وابتكار تصميم جديد يتناسب مع الذوق الشخصي.
في هذا الأسلوب توجد سمات تتكرر بشكل نمطي في الكثير من البيوت، إذ ظهر هذا الأسلوب في الفترة بين (1990 م – 2006 م) وذلك لدى العائلات البحرينية متوسطة الدخل حسب قراءتي الشخصية. سنسميه مجازًا أسلوب الكلاسيكية البحرينية، تبعًا لما يجسده من تكرار نمطي يكاد يوحّد ذائقة العوائل من هذه الطبقة في تلك الفترة الزمنية.
يتسم هذا النمط باستخدام العناصر والأشكال المستوردة من أوروبا، بالإضافة للأثاث والاكسسوارات. فنجد استخدام الجبسيات الإيطالية أو الفرنسية المنشأ من أفاريز، قوالب، بانوهات وخلافه، منعكسًا على تصميم الأسقف، حيث يكون بطابع أوروبي بلونه الأبيض الناصع، مع الثريا المعلقة وسط الغرفة. ليس هذا فحسب، بل إن التأثير الأوروبي امتد إلى أعمال النجارة سواء في جماليات الأبواب أو في إدخال إطارات مقوسة بين الغرف، واستعمال الخشب – في الغالب بلوط (oak wood) مصبوغ بلون الماهوجني (البني المحمر)- مما يعطي شعورًا وإحساسًا بالفخامة واستدامته أكثر من الجبس. استيراد هذه الماديات يكون إما بالاستيراد الفعلي للأثاث والاكسسوارات، أو باستنساخ التصاميم في الورش المحلية، وقد يكون هذا الحال الغالب.
وجود هذه العناصر المستوردة في البيوت البحرينية أدى إلى نشأة صناعة أو حرفة القوالب الجبسية للأفاريز، حيث أنها لم تكن موجودة في البحرين في ذلك الحين. مما ساعد في رواجها وانتشارها هو اتصال البحرين بالدول الأوروبية عمومًا، و ببريطانيا خصوصًا، كأحد نتائج الانتداب البريطاني بشكل رئيسي، وأحد نتائج التبادل الثقافي لحركة السفر والتجارة بشكل ثانوي.
أما بخصوص الأرضيات، ففي الغالب تكون تربيعات رخامية يتراوح مقاسها بين 50×50سم و 60×60 سم، أو يكون عبارة عن بلاط السيراميك المستورد من أسبانيا أو الإمارات العربية المتحدة، نظرا لجودة التصنيع العالية من هذين المصدرين وما يتولد من إحساس بالشكل الرخامي بنفس المقاسات، حيث تغلب درجات لون البيج الفاتح مع عروق رخامية بسيطة.
التأثيث الانتقائي الكلاسيكي كان وليد الذوق الشخصي بالإضافة إلى ما يقترحه مقاول البناء من لمسات أو أفكار أو حلول، كما كان يفعل والدي مع البيوت من إضافة للمساته ومقترحاته أثناء التنفيذ. وما ذلك إلا لكون مهنة التصميم الداخلي غير معروفة ومتداولة حينها، كما أن تكليف مصمم داخلي كان أمرًا باهظ الثمن، مما جعله مهنة يحتكرها المصممون الأجانب الذين يقدمون خدماتهم لذوي الدخل المرتفع لفترة زمنية طويلة.
إن من أبرز العوامل التي ساهمت في انتشار هذا النمط هو توافر مواد التشطيب أو التأثيث ذات الجودة العالية في السوق المحلية. انفتاح السوق البحريني على الأسواق العالمية جلب الكنب الأمريكي بأقمشة وألوان مختلفة تتراوح ألوانها بين الألوان الحارة أو المحايدة والبيج، كذلك استخدام طاولات الطعام مع الكراسي ذات الطابع الفرنسي، مع “الفاترينه” أي الخزانة الخشبية ذات الأرفف الخشبية و الأبواب الزجاجية المستخدمة لعرض الأواني الخزفية والزجاجية الراقية والمميزة.
في هذا النمط، الإكسسوارات لها حضورها القوي والمؤثر، إذ نجد استخدام السجاد الإيراني المعروف بتميز جودته وتصاميمه الأنيقة لإعطاء الفراغ نوع من الفخامة. والمزهريات أيضا لها حضورها اللافت، لا سيما إن كانت ذات النقوش الزهرية والألوان الزاهية. كما أن الأبجورات الكبيرة والفخمة الموضوعة على الطاولات الجانبية، أضافت دراما ضوئية تضيف لشخصية هذا النمط. وللتعبير عن الترحيب توضع بجانب المدخل طاولة مع مرآة دائرية أو مستطيلة خشبية على الطراز الأوروبي.
في السابق، كانت العوائل المقبلة على تأثيث بيوتها تتعامل بأريحية تامة، فلا قيود ولا قوانين تصميمية صارمة تحدّها. بإمكانهم استلهام الأفكار من السفر ومعاينة بيوت الأهل والأصدقاء، و الخلط بين هذا وذاك باستخدام العناصر المتوافرة في السوق، حيث أن الروح واحدة لكل القطع من ناحية التصميم والنسق اللوني. صحيح بأن الخيارات كانت محدودة في صالات عرض الأثاث، إلا أنها كانت فريدة وأصيلة، ولكل قطعة مشغولة في المصنع المحلي أو بين أيدي الحرفي قصة، أما الآن وبعد أن أصبح التسوق الالكتروني متاحًا للجميع من كل أنحاء العالم، أصبح من الصعب إيجاد قطعة مميزة لم نرها من قبل. وفي وقتنا المعاصر، فإن طريقة اختيار الناس لم تتغير كثيرًا، فما زالت العوائل تتبع الوعي الجمعي في طريقة تصميمها الداخلي وتأثيثها للمنازل. والوعي الجمعي هو الذي يخلق طراز معين لكل زمن، ويتأثر بالقطع المتوفرة في السوق، ويمكن فهمها أكثر عن طريق التسلسل الآتي:
يتأثر الزبون بالمصمم
والمصمم يتأثر بدوره بالمصممين العالميين و بالموردين
و الموردين يتأثرون بالمصممين العالميين
فعندما ينتشر تصميم لقطعة إضاءة قادمة من مصانع الصين مثلاً، نعرف بديهيًا بأن التصميم الأصلي للقطعة يعود لمصمم عالمي مشهور، وقد وصل إلينا بعد تغييرات كثيرة، حتى أصبحنا نتقبله ودخل في حسّنا الجمالي وذوقنا الشخصي.
في حياتي الشخصية قبل العملية، أستمتع جدًا بمراقبة هذا النوع من التحول المجتمعي/التصميمي، و ألاحظ دائمًا التغيرات التي تطرأ على بيوتنا.من خلال هذه التجربة، أرى أنه من المهم تتبع الطراز عن طريق زيارة الأماكن الباقية على حالها، الصور، والأهم من ذلك التاريخ الشفهي. لا شك بأنني سأواصل البحث في موضوع نمط التأثيث الانتقائي وأسعى لتوثيقه بصريًا و تاريخيًا. ومن هذا المنطلق أقدّر جدًا مهمة التوثيق و سرد القصص كي نزرع ملامح مجتمعنا في ذاكرة الأجيال.