العمارة الحقيقة المرتكزة على تحقيق متطلبات الناس و المرتبطة بسياقيْ الزمان والمكان والتي تعكس ثقافة وهوية المجتمع هي ما تشكل شعورنا و تأثر على تجاربنا المعيشية و تصنع الذكرى الحقيقة للمكان. لا يمكن الفصل بين الجوانب الحسية و المادية في العمارة بل الجوانب الحسية هي الأبقى لأنها المبتدأ و المنتهى، منها يبتدأ فعل المعماري و بها تنتهي تجربة الساكن، ولعل هنا نربط بمقولة لويس كان الشهيرة التي أكد على هذه الفكرة بشكل بديع عندما قال ” المبنى العظيم يجب أن يبدأ باللامحسوس، مروراً بوسائل القياس المادية عند تصميمه ومنتهياً باللامحسوس مرة آخرى “.
ولكن لماذا أصبحت عمارتنا موحشة، غير محفزة على بناء تجارب حقيقية مع المكان! هل أصبحت العمارة انعكاس للزمن الذي نعيشه ، وخَفَت مفهوم “”slow architecture بشكل مباشر لأثر التقنيات الحديثة في صنع العمارة و بالتالي فقدان المعماري للعلاقة التأملية بإنتاج عمارة عميقة. بلا شك أن تقنيات الإظهار المعماري وماترتب عليها من تطور مذهل في تصور المنتج المعماري كان محل جدل بدءاً من ظهور الحاسبات وغزوها لمراسم التصميم المعماري في بداية التسعينات وحتى اليوم. هذا الأمر وتأثير إنتاج العمارة بشكل فائق السرعة لم يجعل فرصة المعماري في التأمل وإدراك المشكلة المعمارية عملية فكرية عميقة، بل حولها لأن تصبح أشبه باللحظة الزمنية، ومع ذلك لايمكننا الجزم بأنها السبب الوحيد في تفشي ظاهرة العمارة المارقة على الحس والمرتكزة على الشكل وإنما يضاف لها جوانب المحاكاة و محاولة تقزيم العمل التصميمي لأشبه بالعملية الرقمية التي يتم إنتاجها بصنع لوغاريتمات تحاكي آداء المبنى ومن ثم تقود المعماري في اختيار الحل الأمثل.
العمارة هي عبارة عن تشكيل شاعري من قبل المصمم لعلاقات الناس الإجتماعية و مرآة تعكس ذواتنا وتعبر عن هوياتنا، لذا فالعمارة تختلف عن بقية الفنون في تأكيدها على التجربة المعيشية و قدرة المعماري على تصويرها بشكل يلائم احتياجات الناس النفسية والوظيفية وهذا ما يؤكد عليه الناقد ويتلد ريبنزسكني ” تجربة المبنى هي ليس بذات الشبه كمشاهدة اللوح الفنية في متحف. اللوح الفنية وضعت لكي يتم النظر إليها، العمارة يجب أن تعاش. المباني تكشف عن نفسها بشكل متأني، يجب أن يتم معايشتها في أوقات زمنية مختلفة وتحت ظروف مختلفة أيضاً، في الضوء والعتمة، في الضباب وتحت رشات المطر… هذه تجربة العمارة. ” (ريبنزسكي، 2002).
لعلنا نؤكد هنا على أن التجربة الحسية غير مقتصرة على العمارة بمعزل عن العمران، فتشكيل ذاكرة المجتمعات مرتبط بالعمران المادي وكيفية رسم صورة ذهنية عن تفاعلنا مع الفراغات العامة ودور العمراني في تحفيز هذا التفاعل بشكل إيجابي و تقليل الأثر السلبي للفراغات العامة على المستخدمين. هذه العلاقة ما بين المحسوس والمادي في بيئتنا العمرانية مؤكد عليها من قبل الكثيرين حتى نرى هذا التمييز جلي في بعض اللغات، فمثلاً اللغة الفرنسية تفصل بشكل بليغ ما بين ما هو مرتبط بالجانب الحسي الغير ملموس والجانب المادي في البيئة العمرانية فنجد ville وتشير إلى كينونة المدينة بشكل عام و cite المراد بها ذهنية الناس عن المكان، تجاربهم مشاعرهم وإرتباطهم بالمكان (سينيت، 2018).
السؤال الذي يتبادر للذهن هنا لماذا نركز على أهمية الجوانب اللامادية والغير محسوسة بالعمارة خصوصاً في مساكننا التي نقضي بها جل أوقاتنا؟ لأنها الحارس الأول لأمزجتنا لأن مساكننا هي الملجأ التي تسكن فيها أرواحنا من يوميات الحياة المثقلة بالأعباء و الإلتزامات التي بفضل الأجهزة الحديثة أصبحت تلاحقنا حتى في المسكن الذي يعتبر نزهة الروح و فراغ العائلة الأوحد. في تصميمنا للمسكن يجب أن يكون منطلقنا هو فهم سيكولوجية المستخدم، وهو ما يمكننا أن نضعه كمنطلق تصميمي لإعادة الإعتبار لمفهوم السكنى الحقيقي. حيث المكان الحاضن للعائلة بمشاعرهم و المحفز على صنع تجربتهم الحياتية، فدورنا كمعماريين هو جعل هذه المساحة خالية حتى يكملها شاغر المسكن و تكتمل العمارة الحقيقية. وهذا ما يتجلى بشكل بديع في نص للشاعر محمود درويش ” البيوت تموت إذا غاب سكانها”. موت البيوت هي تأكيد على فكرة أن البيوت أحياء إذا احتضنت التجربة الحسية و يسرت للمستخدم أن يسكن و يرتبط بالمكان بمفهومه الأمثل.
وهنا يبرز سؤال هل يمكنني وضع قائمة بالعناصر التي يمكن الاتكاء عليه بحيث تعيد البهجة لمساكننا وتشجعنا على فعل السكنى بدلاً من المكوث ما بين حوائط خرسانية تقتات على وقتنا ببطء وملل، وهذا ما برز أثناء الحجر المنزلي وأغلب أوقات الجائحة. الجواب لا يوجد حل سحري يرفع قيمة المبنى من مكون مادي جامد إلى عمارة حية قادرة على استيعاب إحتياجات قاطنيها و معبرة عن هويتهم و مكانهم. الحل بيدي المعماري لكي يعود للمبادئ الرئيسية التي تعلمها على مقاعد الدراسة وغفل عنها في مرحلة تعاقب المشاريع ومحاولة اللحاق بركب السوق.
الذي نبحث عنه هو السكن المرتكز على شعور الإنسان واحساسه،السكن الذي يحتفي بالضوء، السكن الذي يخلق الراحة السمعية لقاطنيه، السكن الذي يعزز دور أماكن الراحة الذهنية والجسدية، السكن الذي يراعي الفروقات العمرية لساكنيه، السكن الذي يوازن ما بين الداخل والخارج، السكن الذي يسهم في استدامة الموارد و صديقًا للبيئة، السكن الذي يبرز هوية الذات ويقويها، السكن الذي يسمح لقاطنيه بتشكيل فراغاته عبر الزمن، السكن الذي يتحدث لنا بكل حواسنا.