شَهدت دول الخليج العربي في العقود الخمس الماضية تحولات اقتصادية كبرى تَرافقت مع ارتفاع عائدات النفط منذ منتصف الستينات الميلادية. لقد شَكل تصدير النفط بكميات ضخمة في تلك الفترة نقلة اقتصادية هائلة لدول طالما اعتمدت على صيد الأسماك، والتجارة، والصناعات اليدوية. لقد كان الاقتصاد الخليجي قبل اكتشاف النفط متذبذبًا ويميل إلى الركود، حيث يتم استهلاك الإنتاج كاملاً دون فائض أو قيمة مضافة. وبعد إنتاج النفط وتصديره بكميات هائلة أصبحت دول الخليج العربي على موعد مع طفرة اقتصادية وتحولات حضرية انعكست على مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافة المادية.
لقد ارتبط النمو السكاني في دول الخليج العربي خلال فترة التحول الاقتصادي بتغير ثقافي واجتماعي أثر على أنماط الإسكان، وطبيعة تشكيل الأحياء السكنية في المدن. وبناء على تقديرات البنك الدولي فقد ارتفعت نسبة التحضر في عُمان من 16% في عام 1960 إلى 85% في عام 2019؛ وفي المملكة العربية السعودية من 33% في عام 1960 إلى 84% في عام 2019؛ وفي الإمارات العربية المتحدة من 73% في عام 1960 إلى 86% في عام 2019؛ وفي البحرين من 82% في عام 1960 الى 89% في عام 2019؛ وفي قطر من 85% في عام 1960 إلى 99% في عام 2019؛ في حين ارتفعت نسبة التحضر في الكويت من 75% في عام 1960 إلى 100% في عام 2019 [1].
لقد أعقب ارتفاع نسبة التحضر في دول الخليج العربي توسع عمراني سريع لمواكبة الطلب المتنامي على قطاع الإسكان، حيث توسعت المدن ودارت عجلة البناء والتطور العمراني، لتحل الفلل الحديثة والأبراج السكنية محل البيوت الطينية والمساكن التقليدية والخيام. مَرت المدن الخليجية بطفرة اقتصادية أدت إلى التوسع العمراني خارج الأسوار التي كانت تحيط بالمدن قبل عام 1960، وأصبحت شبكات الطرق الواسعة والسريعة وسيلة النقل المفضلة للسكان، وتَولت إدارات البلدية المحلية مسئولية تلبية التوسع في مخططات التطوير السكني وإمدادات البنية التحتية للأحياء السكنية.
لقد استقطبت مدن كالرياض، ودبي، والمنامة، والكويت تدفقات سكانية على حساب المدن الصغيرة الأخرى وبشكل فاق حدود قدرة الإدارات البلدية المحلية حديثة التأسيس في ذلك الوقت. كما خَلت مناطق شاسعة من الدول الخليجية من أي تجمعات عمرانية، واستأثرت مدينة الرياض بنسبة 21% من إجمالي سكان المملكة العربية السعودية؛ وفي المقابل شَكل إجمالي السكان في دبي ما يقارب 30% من سكان دولة الإمارات العربية المتحدة؛ وأحتل سكان مدينة المنامة ما يعادل 40% من سكان مملكة البحرين؛ في حين تركز أكثر من 70% من سكان دولة الكويت في العاصمة [2].
في الواقع، إن التحضر الذي شهدته المدن الخليجية ساهم في تحقيق الازدهار، والرفاه الاجتماعي؛ إلا أن استمرار التركز السكاني السريع في المدن كان له عواقب حضرية إنعكست سلبيًا على قطاع الإسكان وتمثل ذلك في زيادة الطلب على الوحدات السكنية، وارتفاع أسعار الأراضي والبناء. كما ساهمت ندرة المعروض من الأراضي السكنية في تفاقم أزمة الإسكان في العديد من دول الخليج العربي. إن النمو العمراني للمدن الخليجية صاحبه تطوير متسارع للأحياء السكنية بهدف استيعاب النمو السكاني. وفي معظم الأحوال يغيب البعد الإنساني في تشكيل البيئة العمرانية لهذه الأحياء السكنية حيث هيمنت المساحات السكنية على حساب المناطق المفتوحة، وطغت الشوارع على حساب مسارات المشاة وبدائل النقل الأخرى.
إن الخلل في توزيع التنمية العمرانية في المدن الخليجية صاحبه هجرة متنامية واستقطاب للسكان إلى المدن الكبرى. وعزز ذلك من سياسات المركزية وتضخم المدن بوصفها تجمع لمناطق أعمال ومراكز استثمار جاذبة للسكان، وشهدت هذه المدن ارتفاع ملحوظ في الطلب على الإسكان ولا سيما من الأسر الناشئة أو الوافدين. لقد أصبح أسعار الوحدات السكنية في مدن كالرياض، ودبي، والكويت تفوق المعايير القياسية للقدرة على تحمل تكاليف الإسكان، وظل مخزون الإسكان الميسر (Affordable housing) في حدود أقل من حجم الطلب الفعلي.
اليوم، تشير العديد من الإحصاءات الى أن متوسط سعر المتر المربع من الأراضي السكنية في بعض المدن الخليجية يقع في حدود تفوق قدرة الأسر متوسطة الدخل، حيث يمكن أن يصل متوسط سعر المتر المربع في الكويت الى أكثر من 3000 دولار، وهو ما يعني أن تكلفة المسكن المعتدل بمساحة أقل من 400 متر مربع قد تصل الى أكثر من مليون ونصف مليون دولار. أما في الرياض فيتراوح متوسط سعر المتر المربع بين 700-1000 دولار، وهو ما يعني أن تكلفة المسكن المعتدل تتجاوز 280,000 دولار.
لقد أثر حجم الطلب على الإسكان وارتفاع تكاليف البناء على أنماط الأحياء والوحدات السكنية، واستجابات الاشتراطات البنائية لتميل نحو ترشيد المساحات المهدرة في الوحدات السكنية، وزيادة الكثافات، وإعادة تجزئة الأراضي، وفرز الوحدات السكنية وفقًا لاحتياجات الأسر وضمن إطار معايير ومعدلات التخطيط المحلية. ولعل مثل هذه الإجراءات ساهمت في زيادة مخزون الإسكان بشكل مؤقت، وتقليل حدة الطلب عليه ولاسيما في العواصم الكبرى. ولكنها في المقابل، عملت على زيادة الكثافات السكانية، وخَفّضت من كفاءة الخدمات الأساسية في الأحياء السكنية.
لقد أدت المتغيرات التنموية المتسارعة في دول الخليج العربي إلى تبني عدد من السياسات التي تدعم في مجملها تمكين الأسر من الحصول على مسكن ضمن حدود القدرة الاقتصادية. وسارعت حكومات دول الخليج العربي لمواجهة التحديات الإسكانية من خلال تطوير مشاريع الإسكان المُيسر أو برامج الدعم السكني (Subsidized housing). كما عملت العديد من دول الخليج العربي على تبني مخططات هيكلية لتطوير التجمعات السكنية وتلبية الطلب على الإسكان وفق مستويات تراعي البعد الوطني، فالإقليمي، ومن ثم المحلي.
في الكويت، أوصى المخطط الهيكلي لعام 1970 (KMPR1) بإعادة تقييم ورفع كفاءة شبكات الطرق وتشجيع السكن في التجمعات العمرانية الجديدة وذلك لتقليل الطلب على الإسكان في العاصمة. في حين أوصى المخطط الهيكلي الثالث (3KMP) بتوزيع الزيادة السكانية المقدرة بـ 1.5 مليون نسمة على المدن الجديدة في عام 2015. وتشير التوقعات الإحصائية الى أن المساحة المستهدفة من الأراضي السكنية يجب أن تكون قادرة على تلبية التوازن مع الطلب المتوقع ويتوقف ذلك على إنشاء مدن جديدة، أو التوسع في المنطقة الحضرية القائمة. وعليه فإن دور المؤسسة العامة للرعاية السكنية في الكويت يتمحور في تطوير سياسات الشراكة مع القطاع الخاص في تنفيذ برامج الإسكان، وزيادة فاعلية استخدام الأراضي السكنية لرفع المعروض السكني [3].
وفي الإمارات العربية المتحدة، عملت سياسة الإسكان على تطوير البيئة السكنية واتخذت أشكال الدعم الحكومي أنماط مختلفة تضمنت المسكن الحكومي، والتمويل المالي، والقروض طويلة الأجل، ومنح الأراضي. وبدأت الدولة منذ منتصف السبعينات في تطوير مشاريع سكنية تهدف الى توطين البادية ودراسة مدى ملائمة الوحدات السكنية مع طبيعة احتياجات الأسر المستفيدة. وترافقت المشاريع السكنية مع نهضة تنموية كبرى شهدتها الدولة وانعكس ذلك على مستوى شبكات الطرق، والخدمات الأساسية، والمرافق العامة. ويأتي برنامج الشيخ زايد للإسكان استمراراً لجهود إدارة التنمية الإسكانية بما يلبي الاحتياجات السكنية المستقبلية، حيث يركز البرنامج على بناء المساكن، وتقديم المنح المالية، والقروض الميسرة [4].
وفي المملكة العربية السعودية، يمكن القول إن مشروع توطين البادية الذي تم تبنيه في عهد المؤسس المغفور له الملك عبد العزيز آل سعود نقطة التحول في الاستقرار الاستيطاني لمجتمع طالما أعتمد على التنقل والترحال. لقد ساهم هذا المشروع في استقرار السكان، ودفع عجلة التحول الاجتماعي، والاقتصادي، والثقافي للمجتمع السعودي. وتلا ذلك عدد من البرامج الإسكانية التي تعددت أهدافها ما بين تحقيق التنمية العمرانية أو تمكين المواطن من الحصول على مسكن ميسر. ويأتي صندوق التنمية العقارية كأحد أبرز البرامج التي أحدثت نقلة نوعية في أنماط الوحدات السكنية للأسر السعودية بعد عام 1970. إذ ساهمت الأحياء السكنية ذات الأنماط الحديثة والوحدات السكنية المعاصرة (الفيلا) في تغيير الصورة النمطية للمسكن لدى الأسرة السعودية [5]. لقد تنوعت برامج ومشاريع الإسكان في المملكة العربية السعودية لتشمل قروض الدعم، والمساكن الجاهزة، والإسكان التنموي. وفي المجمل، ركزت سياسة الإسكان على تمكين المواطن من الحصول على مسكن ملائم ضمن حدود القدرة الاقتصادية للأسر من خلال برامج الإعانات السكنية وبما يتوافق مع توجهات الرؤية الوطنية.
ونستنتج مما تقدم، أن التحولات الاقتصادية المتسارعة التي شهدتها دول الخليج العربي كان لها الأثر الملموس على ثقافة المجتمع الخليجي والبيئة العمرانية، وانعكست هذه التحولات على أنماط الوحدات السكنية والمشهد الحضري العام للمدن الخليجية. وتستوجب هذه المتغيرات حشد جهود التنمية العمرانية ضمن إطار استراتيجية تكاملية، أو مشروع تنموي خليجي يحقق جودة الحياة والرفاه الاجتماعي لأبنائه. إن تطوير الاستراتيجيات الهادفة لتعزيز دور المدن الصغيرة وكبح الهجرة الداخلية يمكن أن يساهم في تقليل الطلب وإعادة التوازن لسوق الإسكان. ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال الاستغلال الأمثل للموارد الاقتصادية، ودعم التبادل التجاري بين المدن، وبناء شبكات سكك حديدية تكاملية تعمل بمثابة محاور تنموية لربط المدن الخليجية. وختامًا، فإن على صانعي سياسات الإسكان في دول الخليج العربي تبني ثقافة الإدارة التعاونية في التعامل مع أزمات الإسكان كأحد الخيارات الاستراتيجية في عصر ما بعد النفط، ويمكن أن يتحقق ذلك من خلال تأسيس بنك معلومات إسكانية موحد، أو بنوك تمويل تشاركية؛ إلى جانب توسيع قاعدة مشاركة المجتمع في ابتكار منتجات إسكان تتوافق مع خصائص المجتمع الخليجي.
English Resources
-
World Bank, “World Bank Open Data,” 2020. [Online]. Available: https://data.worldbank.org/.
-
World Population Review, “Population Data,” World Population Review, 2020. [Online]. Available: https://worldpopulationreview.com/world-cities.
المراجع العربية
[3] بلدية الكويت، “تطوير وتحديث المخطط الهيكلي الثالث لدولة الكويت،” بلدية الكويت، الكويت, 2004.
[4] م. ا. حرم، الإسكان في دولة الأمارات.. المسكن أكثر من مجرد مأوى، برنامج الشيخ زايد للإسكان, 2019.
[5] ع. حيدر، و. الزامل، “تصميم المسكن المستقل بناء على العوامل المؤثرة في مساحته ومكوناته من وجهة نظر المستخدمين،” مجلة دراسات الخليج والجزيرة العربية، vol. 45, no. 172, pp. 301-340, 2019.