في يوليو من عام 1972م نُسف مشروع الإسكان العام “بروت- إيغو” في مدينة سانت لويس الأمريكية الذي بُني في 1951م، وقد تم تدميره بالكامل كإعلان لفشل المشروع الذي بدأ التخلي عنه في أواخر الستينات. سقوط بروت- إيغو لم يكن نهاية لعصر الحداثة كما وصفه “تشارلز جنكس” فحسب بل كان “أيقونة لفشل التجديد العمراني وسياسات الإسكان العامّة” على رأي كثير من النقاد الذين تناولوا هذه التجربة سيئة السمعة، مثلها مثل تجارب إسكان أخرى في أنحاء العالم.
في رأيي الشخصي، إن معظم تجارب مشاريع الإسكان التي لم يكتب لها الحياة أو عاشت وهي تعاني من مرض عضال، لم تقتصر على مستوى التصميم المعماري للمبنى أو مجموعة المباني التي يتكون منها المشروع كسبب رئيس بل لأن معظمها كان يفتقر للبُعد العمراني داخل نطاق الإسكان نفسه أو ارتباطه باستخدامات الأراضي المحيطة وعلاقته بالتركيبة العمرانية للمدينة، ويبرهن ذلك أن ثمة مشاريع كانت متميزة بتصميمها وتخطيط فراغاتها الداخلية ومع ذلك أخفقت في إقناع السكان بالبقاء والعيش بداخلها لأنها كانت أشبه بالجزر المنعزلة.
الأزمة التي تعيشها المساكن في منطقة الخليج العربي بشكل عام وفي السعودية بشكل خاص أنها لم تستطيع حتى الآن الخروج من نفق “الأحادية” المعمارية داخل دورة حياة المشروع وانكفاءها إلى الداخل، والتي عادة تتناول المنطقة القريبة المتاخمة من محيط المشروع كأقصى تفكير تشاركي، دون أي اعتبار أو تقدير للمنظومة العمرانية الشاملة، وسط غياب تام لفلسفة الاندماج العقلاني، وبالتالي يحدث الانسلاخ عن جسد المدينة عمرانيًا، مما يؤدي في نهاية المطاف إلى تدهور في كفاءتها الوظيفية ونزوح السكان منها.
ما يبرهن أن المدينة بفراغاتها العمرانية هي جزء رئيس من مكونات تصميم المسكن، هو ما قدمه “راي أولدينبرغ” بداية التسعينيات من فلسفة مطورة حول مفهوم “المكان الثالث”؛ إذ عرفه بالمحيط الاجتماعي المستقل عن الأماكن المعتادة في المنزل “المكان الأول”، ومكان العمل “المكان الثاني”، ووصفه بالمقصد الأكثر إثارة لمشاعر الإحساس بالمكان وإدراكه، والأنسب لتطوير الأعمال وتفعيل المشاركة العامة وممارسة أنشطة الحياة الموجهة للمجتمع المدني في الفضاءات العامة، سواء كانت مغلقة أو مفتوحة.
الإشكالية التي يجب استيعابها من قبل مسيري المدن أن الإسكان مرتبط باقتصاديات المكان واستخداماته، وأن التسلسل التاريخي لنمو المدن يثبت أن تركيبتها الداخلية متغيرة وغير ثابتة ويتحكم في ذلك بشكل رئيس الجاذبية الاقتصادية القادرة على إعادة هيكلة استعمالات الأراضي وقلب موازين القوى وخلق الميز التنافسية خاصة تلك التي تتواجد وسط العمران، وهذا يؤكد أن التنمية تولد التنمية، وكما يقول العالم الاقتصادي الألماني “فون ثونن” عام 1826م :”أن المردود الاقتصادي يتحدد من خلال البعد أو القرب من مركز المدينة”، عدا ذلك فلنكن على استعداد لتكرار خرافة “بروت- آيغو” الإسكانية، وإن ظهرت في وقتنا الحالي على هيئة مساكن إجبارية لعدم وجود أي خيارات أخرى.